آخر الأخبار |
مقالات تحليلية، آراء وخواطر

وصيّة والد ... مبروك توجيهك الجامعي..
  
   

التاريخ : 23-08-2020 مطالعات : 5286

في يوم الإعلان عن نتائج التوجيه الجامعي للدورة الرئيسية (الدورة الأولى لتوجيه كل الناجحين في الباكلوريا 2020 بدورتيها)، لاشكّ أنّ الكثير من أبناء تونس وخاصّة أبناء المناطق الدّاخليّة أو أولئك الذين تحصّلوا على توجيه جامعي في مدن بعيدة، يشعرون هم وآباؤهم وأمهاتهم بمثل هذه المشاعر، إمّا بسبب الخوف من ثقل مصاريف النقل والإقامة والحياة الجامعية أو خوفا من مغامرة جديدة يبتعد فيها الأبناء والبنات عن عائلاتهم لأوّل مرّة في حياتهم.. هذه الخاطرة المعبّرة مهداة لهم، لنقول لهم ألّا يجزعوا وألّا يخافوا وأنّ النجاح والتوفيق سيكونان بإذن الله معهم ..

 

  وصية والد، بقلم الأستاذ الصغيّر حسن*

في تلك السنة لم يكن الخريف كسابقيه، فقد اجتزت اختبار الباكالوريا (الثانوية العامة) بنجاح وبدأت أستعد للسفر إلى تونس العاصمة للدراسة.

كان والدي رحمه الله يتمنى لو درست في القيروان أو صفاقس بحكم قرب المدينتين نسبيا من قفصة ونزولا عند رغبته اخترت في ورقة التوجيه شعبة اللغة العربية في هاتين المدينتين لكن لجنة التوجيه تجاوزتهما ومنحتني الخيار الثالث وهي شعبة الصحافة في تونس العاصمة.

وفي ذلك المساء الخريفي المترع بالرطوبة والكآبة والذي يسبق يوم سفري، قالت لي إحدى شقيقاتي إن والدي يريدك، طبعا لم أسألها أين أجده فمنذ وعيت على الدنيا كان الوالد يجلس بعد العصر تحت الحائط الجنوبي للبيت بمواجهة الطريق ويلتف في برنسه الصوفي الأبيض صيفا وشتاء ويظل هناك إلى ما قبل المغرب بقليل.

اقتربت منه لكنه كان شاردا ولم ينتبه لخطواتي المتعثرة، انتظرت قليلا ثم نطقت "سيدي ناديتني؟" انتبه فجأة ثم قال نعم نعم اجلس كي أوصيك.

جلست متثاقلا فأنا أعرف وصيته وحفظتها عن ظهر قلب، إذ كان دائما يوصيني بأن أعول على نفسي وأن أكون رجلا وما إلى ذلك، لكن ما إن تكلم حتى لمست في كلامه مسحة من الخوف والحزن لم أعهدها فيه من قبل، ما يشي بأن الأمر يختلف هذه المرة. وقبل أن يوصيني سألني عن المبلغ المالي الذي أعطاني إياه إن كان يكفيني فأجبته بنعم. 

وفي الواقع كان المبلغ زهيدا جدا ولا يكفي حتى لأيام قليلة وانا الذي سأغيب أشهرا لكني كنت أعلم أن ذلك المبلغ هو كل ما لديه ولو أجبته بلا سيضطر للتداين المذل أو لصمت العاجزين وسيظل قلقا علي حتى يجافيه النوم فوكلت الأمر لله الرزاق.

قال والدي اعلم يا ولدي أن سفرك هذه المرة ليس كأسفارك السابقة، فقد كنت تدرس في قفصة حيث يوجد بعض أهلك وتكاليف الحياة بسيطة ولو احتجتنا ستجدنا هناك في أقل من ساعة، أما الآن فسفرك طويل ومقامك ناء وبعيد فليس أمامك إلا أن تعول على نفسك. ثم أضاف وهو يخنق عبرة عنيدة تكاد تفضحه وتكشف ما يختلج بداخله من خوف وهو يريد ان يظهر بمظهر الوالد المتماسك، "انا يا ولدي عرفت كيف أعيش زمني وأتكيف معه بحلوه ومره وصارعته فكان يصرعني احيانا وأصرعه حينا، ولقد لازمتك بالتوجيه والنصح في ما أعرفه، اما الآن فأنت مقبل على زمن لا أستطيع ان أفيدك فيه بشيء إلا الدعاء لك بالصلاح والهداية فزمني وزمن أمثالي يوشك على الأفول او ربما أفل وانتهى وهذا زمنكم فعليكم بالتكيف معه. فهناك يا ولدي ستجد مصاعب كثيرة عليك ان تعرف كيف تواجهها وتنتصر عليها وستجد مغريات كثيرة فحافظ على دينك وأخلاقك وإياك وزلة القدم فليس أسهل من الفساد لكن الإصلاح صعب وعسير.

احذر رفاق السوء يا ولدي وواظب على دروسك فمنتهى املي ان اراك بشهادتك حتى لا تكون حياتك مثل حياتي انا الأمي. احذر يا ولدي ان تتهور وتحترف السياسة وتذكر اذا دعاك البعض إلى الثورة والتمرد أن لهم أهلا ومعارف سيخرجونهم منها أما أنت فلو اعتقلت فلن تجد احدا بجوارك او احدا يهتم لأمرك، وانت تعرف أنه ليس لدي لا المال ولا الصحة حتى اتتبعك من محكمة إلى أخرى ومن سجن إلى آخر ولن أقدر حتى على كلفة محام ليدافع عنك. 

تذكر يا ولدي انه مهما بلغت من العلم والجاه وعلا شانك انك ابن هذه القرية البسيطة وان والدك مجرد عامل بلدية فقير لا يملك من متاع الدنيا إلا صدقه وأمانته وحب الناس له فلا تفرط في هذه الفضائل من أجل مكاسب زائلة.

ولا أخفيكم أن وصية والدي ظلت تلازمني على مدى سنوات الدراسة وسنوات العمل التي تلتها، وأعترف أني تصرفت أحيانا بجبن وانحنيت لللريح ورضيت بالظلم فقط لأني خشيت أن يتعذب ذلك الشيخ الفقير وهو يطرق ابواب المخافر والمحاكم بحثا عن خبر عن فلذة كبده.

رحمك الله يا أبي وطيب ثراك فلم أعلم مقدار ما كنت تعانيه من أجلي إلا عندما أنجبت الأبناء، لقد عشت زمنك وحين حل زمن غيرك غادرت، لقد غادرت الدنيا وفي جيبك ثلاثون دينارا هي كل ما لديك، فقد جئت للدنيا فقيرا وغادرتها فقيرا كما كنت ترغب!!!

* الأستاذ الصغير حسن هو صحفي تونسي بالمهجر.

 

أضف تعليقا أو اطلب استشارة حول الموضوع أعلاه الدخول إلى فضاء الإستشارات عن بعد
يتمّ الاحتفاظ بما تكتبه في فضائك الخاصّ دون نشر للعموم، ولا يطّلع عليه إلّا مستشارونا وفريق أورينتيني.   إرسال  

تعريف

هذا الموقع يهدف إلى تقديم معلومات ونصائح ووسائل عمل تساعدك على الاستعداد و اتخاذ القرار سواء كان ذلك في ميدان التعليم، التكوين المهني أو التشغيل. لكنه ليس موقعا رسميّا وهو مستقلّ تماما عن ايّ وزارة أو إدارة رسميّة تعمل في مجالات التوجيه أو التعليم العالي أو الثانوي أو التكوين المهني أو التشغيل.

آراء القراء

Top