آخر الأخبار |
مقالات تحليلية، آراء وخواطر

مناظرة النموذجي، في نقد "نمذجة" امتحاناتنا واستشراف سبل إرساء مدرسة الجودة وتقييم الثقة والإنصاف.
  
   

التاريخ : 03-07-2020 مطالعات : 3893

بقلم د. سلوى العباسي*

 

من أتعس مفارقات تعليمنا ربط معايير التميّز والتفوق بنوع مخصوص مجهول من النمذجة الجزائية الإشهادية، التي مثالها البيّن مناظرة الدخول إلى المؤسسات المسماة نموذجية و التي لا علم لنا حدّ الآن بمعايير جزائها، ولسنا ندري أيضا، إن كان للقائمين عليها علم بها وبمؤشرات قيسها التي على أساسها تبنى الاختبارات وتصمم مقاييس إصلاحها وهل هذه المعاييرغير متحركة ولا رجراجة أي مستقرة صريحة لها من "المصداقية" و"الحساسية" و"الثبات" ما يقبل التكميم فالتصريح فالثبت والتوثيق فالمقارنة ؟

  • فهل يوجد دليل تقييمات خاص بامتحانات النموذجي يجعلنا نتبين بسهولة ودون عسر واضح الفروق الجزائية بين اختباراته وبين سائر امتحاناتنا الوطنية المبذولة لغير "النموذجيين" و"النموذجيات" أو من يصح نعتهم وفق هذا التصنيف بمن هم دون هذه النمذجة أو خارجها ؟ أم لدينا فحسب مدونة امتحانات تراكمت منذ أن تقرر هذا الامتحان وبعثت مؤسسات مخصوصة للناجحين فيه ؟
  • هل الاختبار في برنامج سنة دراسية بأكملها كاف جدا لاعتبار المناظرة أداة تقييم للدخول إلى مؤسسات غير بقية مؤسساتنا العمومية ؟ هل المسألة كمية إذن، لا نوعية ؟
  • ما علاقة منظومتنا التعليمية وبرامجها ومقاربتها التعليمية بهذه المناظرة ؟ هل نحن بصدد صناعة منظومة أنموذجية في صلب منظومتنا التعليمية أو بالتوازي معها على الأقل في بعض مخرجاتها عند نهاية مطاف المرحلتين الابتدائية والإعدادية ؟ أم هي منظومة على الهامش قد تحصل بمنطق اعتباطي لا معايير له والحال أنها تخضع فقط إلى طاقة استيعاب مؤسساتها التي هي ليست ثابتة في مطلق الأحوال فيجد تلميذ معدل مناظرته 15نفسه مرة داخل هذه النمذجة ومرات خارجها وبعضهم يواصل والبعض الآخر يخرج بعد سنة أو سنتين؟ فعل كان نجاحه مغشوشا ؟
  • هل هي نمذجة متكاملة تبنى منذ التحضيري تعليما وتعلما وتقويما وتقييما ؟ أم هي مجرد عتبة جزائية مقصورة على فئة من المتعلمين دون سواهم بمنطق الانتخاب والتفاضل والتفضيل والانتشال من الرداءة أو من الخروج عن شروط النمذجة غير المتوفرة في بقية المؤسسات ؟
  • ما الحد الفاصل بين من صنفوا"نموذجيين" وبين سواهم ؟ هل هذا دليل كون مستوياتهم وقدراتهم المعرفية الذكائية المهارية أقوى أو أقلّ ؟
  • هل تنصف هذه المناظرة تلاميذ تونس الأذكياء بشتى أصناف ذكائهم ؟ أم هل تقيس أنواعا بعينها دون سواها ؟ هل تقيس الذكاء أصلا ؟
  • ما تعريف هذه المناظرة للتلميذ الأنموذجي ؟ وهل هناك متعلم أكثر أنموذجية من سواه لمجرد كونه قد تجاوزه بربع نقطة أو نصف نقطة ؟

وكي يجاب عن هذه الأسئلة بما يشفي الغليل ويرضي المبادئ والضمير في انسجام تام مع قيمنا التربوية لمدرسة يفترض أنها جمهورية أقيمت لإرساء أسس الإنصاف والعدل والتكافؤ بين جميع أطفال تونس بلا ميز ولا تبخيس ولا عسف ولا"تعفيس" ولا" ترفيس" وجدت من الأنسب الاطلاع على آراء أستاذ الرياضيات الباحث الكندي "أندري أنتبي" واستعارته الشهيرة "المقبرة الثابتة" أو "المروع الثابت" La constante macabre بعد أن انتبه منذ نهاية الثمانينات إلى ما تسلطه ظاهرة القيس والجزاء دون تقويم وتكوين ودعم وعلاج من مظالم وعسف على آلاف التلاميذ وهو ما ورد في قوله في النصّ الأصلي :

 « On sait depuis longtemps que les enseignants adaptent inconsciemment leur façon de noter, qu’ils modifient la longueur des sujets, jouent sur les barèmes ou s’interdisent de poser des question trop faciles de manière à ce que des élèves réussissent et que d’autres échouent. C’est ce que j’appelle la constante macabre. Pendant longtemps, on a pensé que cette situation était normale. En 1988, je me suis rendu compte que c’était au contraire une injustice et j’ai voulu y mettre fin. »

ومفاد رؤيته التقويمية المستحدثة أن كل منظومة تقوم على الجزاء العددي الصرف منظومة اصطفاء وإقصاء، إذا ما غاب عنها الانسجام المطلوب بين التعليم والتعلم والتقويم والتكوين، وخاصة حينما تفتقر تلك المنظومة إلى آليات الدعم والعلاج المناسبين لنوعية صعوبات تلاميذها ودرجة تواترها وما لم تفلح في تطويع مناهجها وطرائق تدريسها وأدواتها لكلّ ذلك.

فعندما يطغى الهاجس الترتيبي والتقييم التعسفي لعدد معيّن من النقاط يسنده المدرسون وفق سلم جزاء على هاجس الاستحقاق وبناء حقيقي لمعارف المتعلم وصقل ذكائه وتكوين شخصيته في جميع أبعادها الكامنة الوجدانية والعرفانية والعملية تتحول المدرسة إلى نفق مظلم وآلة رحي وسحق للمطحونين، لاسيما إذا ما تظافر الطحن التربوي مع الطحن الاجتماعي الثقافي التنموي.عندها "تأكل المدرسة أبناءها" أو تلقي بهم في البحروتقبرهم في "أجداث" الجهالة والتجاهل أي التسرب والانقطاع واللاتمدرس.

تقسّم مدرسة العدد والجزاء تلاميذها مسبقا وبحكم مواريث الممارسات والتمثلات التعليمية التربوية ومعايير الجزاء والترتيب إلى ثلاثة أصناف من المتعلمين لا رابع لهم:

  • 1- صنف المتفوقين أو المتميزين حسب مؤشرات سلم العدد ومعايير قيسه،
  • 2- صنف المتوسطين أو المتأرجحين بين النجاح والفشل أو بين القتل الرمزي التربوي وبين مواصلة الدراسة أي الحياة،
  • 3- الضعاف أو العاجزين عن بلوغ محددات "المعيرة الجزائية" وشروط إنجاحها المتعلمين وهم المحكوم عليهم بالموت أو الخروج من التعليم، أي الحياة.

والإشكال الجزائي بهذا المعنى قد لا يطال التلاميذ فحسب، بل يصبح من محكات تصنيف المدرسين أنفسهم لأنفسهم ومن أبرز المؤثرات السلبية في حكمهم على نجاعة ممارساتهم، ليغدو عمل المدرس أيضا منخرطا في "الدورة الأبدية" لمنظومات النجاح والفشل والإقصاء، لأنه عندما يقوّم عمله يخضع إلى نفس المعايير التراتبية الترتيبية للمتعلمين ويجد الواحد منهم ذاته مكرها على مراعاة نفس النسق ومجاراة السباق التعجيزي أو التصنيفي المسبق وعلى تقديم نفس المحتوى وعلى قيس المحصلات ذاتها بنفس النوعية من الاختبارات والتقييمات، و المدرس في كل هذا واقع تحت ضاغطة تقييم مؤسسة وحكم متفقد يراقب أداءه بالاحتكام إلى ذات المعايير الجزائية، وحتى منظومة التكوين تتحول إلى منظومة انتقائية تكرّس نفس النتائج وذات الآليات ، في وفاء تام لنفس البرامج وبتأبيد نفس الإرث التربوي التقويمي المتهافت أو المتهالك الذي لم يئن بعد أوان إصلاحه واجتثاث خوره من جذوره.

فيقترح "أندري أنتبي" في مقابل كل هذا "التقويم" التعاقدي التواثقي" أو التقويم بعقد الثقة" une évaluation par contrat de confiance (EPCC). يقول في هذا السياق:

"Je propose que l’enseignant avertisse systématiquement ses élèves de la date et du contenu du contrôle et réponde à toutes leurs interrogations avant le jour J. Le sujet, quant à lui, doit strictement coller au programme. Seule une ou deux questions plus larges sont posées. Il ne doit pas y avoir de question piège."

وفيه نجد انزياحا كليا عن نمذجة "المحنة والامتحان" و"التصنيف" إلى نمذجة الثقة والتعاقد والمعرفة المسبقة بتاريخ الامتحان وأهدافه ونوعية أسئلته وحتى محتواها في محاورها الكبرى على الاقل، إذا استدعى الأمر ذلك مع محايثة شديدة للمدروس تعني الاستعداد الجيد والبناء المحكم للمعارف والكفايات والتدريب الكافي على إكساب المتعلمين المهارات المنهجية والقدرات الذكائية الموصلة لإحراز النجاح، ولا ننسى الدعم والعلاج.

فالاختبار حصيلة مسارمتلاحق متكامل من التعلم والتكوين والتشخيص والمرافقة وليس فخا أو حصالة أو أو لحظة فارقة أو غير متوقعة أو مجال إعجاز لتحفيز ضربات الحظّ وإنعاش عقليات الغشّ وبيع الأعداد و غير ذلك من الآفات.

الامتحان آخر نقطة مفصلية في مسيرة متكلملة من الثقة المشاعة المفضوضة المتكاملة تتوزع منظوماتها على أكثر من اتجاه وطرف حتى نصل بـ"عقد الثقة" إلى "العقد الاجتماعي التربوي" لتكون مسارات التواثق كالآتي:

  • الثقة بين المتعلم ومعلمه كونه مرافقا له في مسيرة تعلم ونجاح لا مسار إقصاء واصطفاء قد ينتهي في أي لحظة بانقطاع وخروج من السباق.
  • ثقة المتعلم في كونه سيتعلّم التعليم الجيّد المنصف الذي يبني شخصيته ويقوي قدراته وينمي ذكاءه بأنواعه ويثمن مواهبه ويعالج صعوباته ويلبي رغباته وتطلعاته ويحقق مطامحه ولا يفضي به إلى اليأس والموت المعنوي أو القتل الرمزي.
  • الثقة بين المتعلّم والتقييم أنماطا وأدوات ونوعية أسئلة ومقاييس كونها من جنس التعلّم وربّما من الأفضل أن يكون التعليم دائما أكبر من التقييم والتقويم التكويني مدرجا في التعليم والتعلم.
  • الثقة بين المدرسة والمجتمع في كونها في كل ما ارتسمته من غائيات وأهداف وما انتقته من محتويات ومقاربات ووسائل وأنظمة تقييم وتوجيه وإشهاد، إنما تخدم مشروع المجتمع والتنمية والتشغيل ومشروع الفرد الإنسان مواطنا متخرجا منها بجدارة ، لا مارقا خارجا عن قوانينها ولا ساقطا من غرابيلها ،والثقة في أن الحق في التعلم المنصف الجيد هو المعيار الأنصع لمدرسة المواطنة والديمقراطية والتعلم للجميع وباعتبار كل الابعاد الكامنة في شخصية الطفل وبتثمين منظومات الذكاء الإنساني الطبيعي والصناعي وفي أن الحق في الحياة والعيش الكريم قوامه استحقاق لإحراز النجاح.

وفي انتظار التحول بتعليمنا من "براديغم" النمذجة الجائرة إلى "براديغم الجودة المنصفة" الذي معه تتحوّل كل مدارسنا أنموذجية لأنها داخل الأنموذج العام لا خارجه ولأن فكرة النمذجة في حد ذاتها تتعارض مع التخصيص والخصخصة والاجتباء والاصطفاء والتمييز و التنافر والتباعد والاختلاف والإقصاء وعدم التكافؤ أختم بقولة لأندري أنتبي ينتقد بها النظام التربوي الفرنسي أتوج بها هذه المطارحة :

« Le système éducatif français est très bon, mais les programmes doivent nécessairement évoluer en même temps que la société. Il y a un débat à avoir sur l’évolution des contenus et sur les priorités à donner à l’enseignement. »

ومؤداها أن" النظام التربوي الفرنسي جيّد جدا لكن مناهجه هي التي يجب أن تتغيّر ضرورة وفي نفس الوقت بمجاراة تغيّر المجتمع وهناك نقاش قائم حول تطور المحتويات وحول الأولويات في التعليم"

المرجع

André Antibi. La constante macabre ou comment a-t-on décourage des génération d élèves. Ed MATH Adore 2003.André Antibi. Les notes . La fin du cauchemar ou En finir avec la constante Macabre. Ed MATH Adore. 2007.

* د. سلوى العباسي بن علي متفقّدة عامّة للتعليم الإعدادي والثانوي بوزارة التربية التونسيّة (مندوبية أريانة) دكتورة في الآداب واللغة العربيّة متخصّصة في النّقد الشعري - عضوة في اللجنة الوطنية لإعداد المنهاج الدّراسي العام التونسي.

أضف تعليقا أو اطلب استشارة حول الموضوع أعلاه الدخول إلى فضاء الإستشارات عن بعد
يتمّ الاحتفاظ بما تكتبه في فضائك الخاصّ دون نشر للعموم، ولا يطّلع عليه إلّا مستشارونا وفريق أورينتيني.   إرسال  

تعريف

هذا الموقع يهدف إلى تقديم معلومات ونصائح ووسائل عمل تساعدك على الاستعداد و اتخاذ القرار سواء كان ذلك في ميدان التعليم، التكوين المهني أو التشغيل. لكنه ليس موقعا رسميّا وهو مستقلّ تماما عن ايّ وزارة أو إدارة رسميّة تعمل في مجالات التوجيه أو التعليم العالي أو الثانوي أو التكوين المهني أو التشغيل.

آراء القراء

Top