آخر الأخبار |
مقالات تحليلية، آراء وخواطر

رسالة مفتوحة إلى السيد وزير التربية : سيدي الوزير، لا تهدموا ما تبقى من جيد
  
   

التاريخ : 08-08-2018 مطالعات : 19593

عندما يعامل الشعب على نحو سيء فان الشعور بالاختناق والتوتر يصبحان سمة عامة للمجتمع بكامله وهذا ما فعله وزير التربية هذه الأيام بفئة كبيرة من الشعب التونسي عندما أعلن الحرب على المعاهد النموذجية بتفريغها من ثلثي منتسبيها في مناظرة السنة التاسعة وبحرمان أكثر من 2200 تلميذ من الالتحاق بهذه المعاهد هي أكثر من نصف الأماكن الشاغرة المتبقية بعد هذه المناظرات التعجيزية.

بالطبع تصريحات السيد الوزير في مجلس النواب وفي الاعلام بنيته الاستغناء عن المعاهد النموذجية يعكس التوجهات التعجيزية لمناظراته. وبالتأكيد السيد الوزير ليس خبيرا في علوم التربية ولا علاقة له بهذا الميدان ولم يحمل يوما برنامجا اصلاحيا تربويا لا في عهد بن علي لما أشرف على وزارة التربية ولا هذه المرة. اما عن الخبراء الذين يستعين بهم فلا اظن ان هناك من درس بالمعاهد النموذجية ولو كان الامر كذلك لكانت وضعية التعليم أفضل بكثير. لن اضيف شيئا عندما اذكر بتصريحه في جوان 2010 بان معدل 20/20 في البكالوريا هو معدل ممكن وذلك تعليقا على نجاح تلميذة من المعهد النموذجي بأريانة في الدورة الرئيسية بهذا المعدل وهي سابقة تاريخية بتونس. هذا الامر ينقلب الى نقيضه في 2018 وتصبح المعاهد لمعاهد النموذجية تكريسا لعدم المساواة في نظره.

قصة نقلة فاقت أفضل أحلام طفل نشأ في ريف مهمش ..

كان لي الشرف للانتماء لإحدى هذه المعاهد وهو معهد بورقيبة النموذجي في سنته الثالثة كشاهد على تجربة دامت سبعة سنوات امضيتها في المبيت وكرئيس لجمعية قدماء هذا الصرح لا يمكن الا ان أقيم ايجابيا دراستي هناك وانا القادم من ريف مهمش بلا ماء ولا كهرباء في ولاية سيدي بوزيد. كانت المنافسة بين مختلف أبناء البلد (في ذلك الوقت لا يوجد سوى معهدان اثنان اريانة وتونس) نزيهة وكان الانتماء الى نخبة التلاميذ مفخرة وقدوة في عائلات المنتمين الى هذه المعاهد.

بالطبع ليس هناك جنة في المعاهد النموذجية ولا امتيازات او منح خاصة للتلاميذ كل ما في الامر ان هناك ظروفا مناسبة للتعليم والتعلم للتلميذ الذي يرغب في النجاح والتميز بدون عقد او الأستاذ الذي يجد اريحية ومتعة في العمل مع تلاميذ منضبطين في القسم وخارجه. نفس هذا الأستاذ يمكن ان يعاني الامرين بوجود تلميذ مشوش واحد ومشاغب في معهد عادي ويكون مردوده ضعيفا جدا. وفي نفس هذا القسم يمكن لتلميذ متميز ان يفقد الرغبة في التألق ويصبح شاذا وغير مرغوب فيه. اذن الجانب المؤثر الذي يصنع الفارق في المعاهد النموذجية هي ظروف العمل المناسبة التي كان من الاجدر توفيرها في جل المعاهد بدا بتقليص عدد التلاميذ بالأقسام المكتظة التي تفوق في اغلبها الثلاثين تلميذا في القسم وتوفير أسباب العيش الكريم لأساتذة ومعلمين نواب أجورهم عار على الدولة فأجرة المعلم النائب لا تتجاوز 150 دينارا وليس بعيدا عن ذلك أجرة الأستاذ النائب.

مشاكل التعليم توجد في تونس أخرى، بعيدة كل البعد عن المعاهد النموذجية...

إن المعاهد النموذجية لم تكن يوما مشكلا في تونس بل كانت منبعا لتلاميذ متفوقين مثلوا قاطرات نجاح في الجامعات التونسية لبقية الطلبة ومن كانت له فرصة الدراسة في الجامعات الخارجية فقد أصبح خير سفير لتونس ولعلي اذكر هنا على سبيل الذكر لا الحصر زميلي في الدراسة الأستاذ الباحث الدكتور بشير جراية اختصاصي جراحة الاعصاب وعالم الرياضيات نادر المصمودي أستاذ جامعة بنيويورك الحاصل على أكبر جوائز العالم في اختصاصه ولعلهم أناروا وجه تونس أكثر من أي وزير خارجية سابق. بالطبع توجد أسماء لامعة أخرى لا أذكرها وأعتذر لهم.
احتلت تونس سنة 2013 المراتب الأخيرة في تقييم دولي يتعلق بقياس كفاءة النظم التعليمية للبلدان والقدرات الاستيعابية للتلاميذ في الميادين العلمية واحتوى "البرنامج الدولي لمتابعة مكتسبات التلاميذ" على عدة مؤشرات، تراوح ترتيب تونس فيها بين المراتب الخمسة الأخيرة من مجموع 65 دولة. وفي سنة 2017 حسب التقرير بيزا حول الانضباط المدرسي تذيلت تونس الترتيب وجاءت في المرتبة 72...

أعتقد أن مشاكل التعليم توجد في تونس أخرى، بعيدة كل البعد عن المعاهد النموذجية، فمشاكل التعليم في تونس كثيرة لعل أبرزها :

  • بنية تحتية مهترئة تستعجل الإصلاح، شكر الله سعي الوزير السابق ناجي جلول الذي انجز خطوات في هذا الاتجاه،
  • أقسام مكتظة بالتلاميذ لا تسمح بالتعليم ولا بالتعلم،
  • معلمون نواب نطالبهم بتعليم أبنائنا ولا نوفر لهم ابجديات التكوين العلمي والبيداغوجي ولا أدنى الظروف الإنسانية للعيش الكريم بأجر شهري لا يتجاوز 150 دينار هو عار على الوزارة والوزير والدولة وكذلك الامر بالنسبة للأساتذة،
  • برامج تعليمية غير ملائمة للعصر لا جدوى لها ولا منفعة مسقطة اسقاطا فما جدوى تعليم تلميذ في السنة الخامسة ابتدائي أنواع الكسور. أؤكد لكم كطبيب عام لا حاجة لي بها فوجود كسر يعني إحالة المريض الى طبيب مختص. ألم يكن من الاجدر تدريس التلاميذ مبادئ الإسعافات الأولية عوضا عن ذلك،
  • منظومة الكفايات الأساسية الفاشلة،
  • ساعات التعلم قليلة بالنسبة للتلميذ التونسي مقارنة بتلاميذ الدول المتقدمة فهي لا تتجاوز 700 ساعة في حين تصل الى 1000 ساعة سنويا في البلدان المتطورة،
  • نسبة الانحراف السلوكي في المعاهد التي ترتفع كل سنة ففي بحث اجري في المعهد الوطني للصحة في 2017 تبين أن31 بالمائة من تلاميذ المعاهد بين سن 15 و17 سنة تعاطوا المخدرات على الأقل مرة واحدة في حياتهم. بالطبع لن اتحدث عن نسبة التدخين والكحول فهي أكثر بكثير،
  • عدم وجود هياكل وبرامج للعناية بالتلاميذ الفاشلين دراسيا وسبئي السلوك. فتوفير خلايا من الأساتذة يصاحبهم مختص في العلوم النفسية ليس امرا صعبا ويمكن ان ينقذ مئات من التلاميذ الذين يغادرون مقاعد الدراسة نحو الانحراف.


لن اطيل أكثر فالمساحة لا تكفي لتعداد كل المشاكل لكن من المؤكد جدا أن المعاهد النموذجية ليست من بينها وأنها تمكن الكثير من فرصة التميز والنجاح وقد يكون مصير بعضهم الفشل لو درسوا في معاهد عادية. لذا سيدي الوزير لا تهدموا ما تبقى من جيد في تعليمنا فأولويات وزارتكم يجب ان تكون الارتقاء بالتعليم لا الحط منه ومعالجة القضايا الأساسية والمشاكل العالقة والمستعجلة للقطاع لا احباط التلاميذ المتميزين وسرقة مجهوداتهم طيلة السنة وإذا كانت غايتكم التصدي للدروس الخصوصية فهناك طرق أسلم وأفضل من هذا الانتقام الموجه لصفوة التلاميذ والاولياء على حد السواء. تأكدوا سيدي الوزير أنكم سببتم الكثير من الاكتئاب والإحباط لأبناء تونس من خلال قراراتكم الارتجالية التي غابت عنها الموضوعية والمسؤولية، كان بودي لو قدمتم احصائيات عن عدد التلاميذ الذين خرجوا من المعاهد النموذجية للجامعات الأجنبية وعن نسبة نجاح بقيتهم في الجامعات التونسية. كنت أتمنى أن أرى خطة لاستقطاب هذه الكفاءات والاستفادة من خبراتهم لا هدم هذه التجربة الرائدة في التعليم التونسي.

وختاما العيب ليس ان نخطئ لكن ان نستمر فيه.

الدكتور عبد العزيز حمدان
طبيب
خبير علمي بالمنظمة العالمية لطب الاسرة WONCA
عضو مباشر في الشبكة الأوروبية للبحوث في الطب العام European General Practice Research Network
رئيس جمعية قدماء معهد بورقيبة

 

أضف تعليقا أو اطلب استشارة حول الموضوع أعلاه الدخول إلى فضاء الإستشارات عن بعد
يتمّ الاحتفاظ بما تكتبه في فضائك الخاصّ دون نشر للعموم، ولا يطّلع عليه إلّا مستشارونا وفريق أورينتيني.   إرسال  

تعريف

هذا الموقع يهدف إلى تقديم معلومات ونصائح ووسائل عمل تساعدك على الاستعداد و اتخاذ القرار سواء كان ذلك في ميدان التعليم، التكوين المهني أو التشغيل. لكنه ليس موقعا رسميّا وهو مستقلّ تماما عن ايّ وزارة أو إدارة رسميّة تعمل في مجالات التوجيه أو التعليم العالي أو الثانوي أو التكوين المهني أو التشغيل.

آراء القراء

Top